مجلة وفاء wafaamagazine
يبدأ مع كل شغور رئاسي الحديث عن انّ الرئاسة لن تعود للموارنة، وانّ الشغور سيفتح باب تغيير النظام، وانّ الأزمة أبعد من رئاسة الجمهورية. وعندما يُنتخب الرئيس تُطوى هذه الأحاديث ليُعاد فتحها مع الشغور الجديد، ولكن هل تختلف هذه المرة عن سابقاتها؟
الخلفية الكامنة وراء التساؤل عن ان الشغور الأخير يختلف عن شغورَي 2007 و 2014 مَردّها إلى موقفين مُعبّرين لكلّ من الشيخ نعيم قاسم والنائب محمد رعد، حيث بعد إقرار قاسم بعدم قدرة اي فريق في إنجاز الاستحقاق الرئاسي لوحده واشتراطه الحوار كمَمرٍ مُلزِم للاتفاق، فإنه قال حرفيّاً: “إذا وجَدنا مساحة الالتقاء نَشترِط على رئيس الجمهورية، الذي سنختاره معًا، بأن يلتزم بالنقاط المشتركة التي تفاهمنا عليها؟”، نقل عن رعد تأكيده للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، عندما التقاه بجولته الأخيرة، “على استمرار دعم ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية وعدم التراجع عن ذلك، ودعوة الفرنسيين إلى مقاربة تأخذ في الاعتبار ان الهدف من التسوية ليس اختيار رئيس، بل إنتاج حل شامل يتجاوز موقع الرئاسة إلى القضايا الأخرى”.
فما هي النقاط المشتركة التي قَصَدها الشيخ نعيم ويريد التفاهم عليها؟ وما طبيعة الحلّ الشامل الذي تحدّثَ عنه رعد؟ وما المقصود بما يتجاوز موقع الرئاسة؟ وما القضايا الأخرى التي يجب الاتفاق عليها؟
لا يمكن وضع هذا الكلام سوى في خانتين: خانة تهويل “حزب الله” على خصومه من أجل التراجع عن موقفهم وانتخاب مرشّح الحزب الرئاسي تلافياً لتعديلات على النظام السياسي، وكأنه يُخيِّر أخصامه بين انتخاب الرئيس الذي يمثل له الضمانة ويحمي ظهر المقاومة، اي الوزير السابق سليمان فرنجية، وبين انتزاع الضمانات الدستورية بعد موافقته على هوية الرئيس التوافقي.
أما الخانة الثانية التي يُوضَع فيها موقفَي قاسم ورعد، فهي ان الحزب قد وجد، ربما، في الشغور الرئاسي المناسبة المطلوبة لإدخال التعديلات التي يريدها على النظام السياسي، ولو لم يكن كذلك لما كان مضطرا إلى كلام يتجاوز فيه هوية الرئيس المقبل، والدليل ان حديث أخصامه كلهم يتمحور حول انتخاب الرئيس والجلسات المفتوحة وإنهاء الشغور وعودة الانتظام من الباب الرئاسي، ولا كلام مباشر ولا غير مباشر عن قضايا أخرى تتجاوز انتخاب الرئيس.
وعندما يتحدّث النائب رعد عن الحل الشامل فإنّ ذلك يعني عملياً انه يريد الوصول إلى هدفين:
الهدف الأول: تشريع سلاح “حزب الله” على طريقة الحشد الشعبي في العراق، بمعنى إدخال تعديل جوهري على اتفاق الطائف لجهة تولّي الحزب مهمة الدفاع عن لبنان، ومع هذا التعديل يضع حداً لهذا النقاش المستمر منذ العام 2005 أقله، اي بعد خروج الجيش السوري وتحوّل سلاح الحزب إلى الإشكالية الأبرز في الحياة السياسية اللبنانية، فيصبح بذلك قوة رديفة للجيش، وثنائية الدولة – الميليشيا غير موجودة سوى في النظام الإيراني ومشتقاته المرتبطة بثورة الولي الفقيه.
الهدف الثاني: الدخول إلى صلب السلطة التنفيذية في الدولة وعدم الاكتفاء بامتلاك مفاتيح السلطة التشريعية والخروج من شدّ الحبال عشيّة تأليف كل حكومة حول وزارة المالية، والذهاب إلى أبعد من ذلك من خلال تثبيت شيعية المالية وانتزاع موقع نائب رئيس للجمهورية وقيادة الجيش في سياق التكامل بين ما يسمّى مقاومة وجيش، وتعديلات أخرى طبعاً ستؤدي إلى تثبيت إمساكه بمفاصل النظام.
فمن الصعب ان يُفهم كلام قاسم ورعد خلاف ما تقدّم، او قد يكون المقصود بالتوازي مع التهويل انتزاع التزامات من دون تعديلات دستورية لجهة التوازنات في حكومات العهد الجديد وتثبيت وزارة المالية عُرفاً والاتفاق على هوية حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش وإخراج سلاح الحزب من النقاش السياسي وغيرها من المواضيع، وقد يكون المطلوب تكبير الحجر للموافقة على فرنجية وطَي صفحة التعديلات.
ولكن ما السبب الذي يدفع “حزب الله” إلى فتح النقاش في النظام السياسي في هذا التوقيت بالذات؟ قد يكون السبب من وراء ذلك من شقيّن: الشقّ الأول خارجي مع الاتفاق السعودي-الإيراني وخشية الحزب من ان يتطوّر مع الوقت وتصل مفاعيله إلى لبنان وان تبدِّل معه طهران سياسة تصدير الثورة عسكريا وأمنيا وهي مخالفة للنظام العالمي والأنظمة الدولية، فيما الرياض تُشدِّد باستمرار على رفض تدخُّل اي دولة في شؤون دولة أخرى، كما رفض نموذج الدولة – الميليشيا وقد عبّرت عن ذلك صراحة في البيان الختامي لـ”إعلان جدة”، وبالتالي استباقاً لكل ذلك يريد تشريع وضعيته العسكرية وانتزاع صلاحيات تنفيذية، خصوصا في مرحلة انتهى فيها دوره الخارجي، فلم يعد من مبرِّر لوجوده في سوريا وسيخرج منها قريبا، فضلاً عن انّ انتقال العلاقة بين السعودية وإيران من السخونة إلى التبريد سيفرض عليه الخروج من ساحات المنطقة والعودة إلى لبنان. ولذلك، يريد تسييل هذه العودة من خلال انتزاع مكاسب دستورية.
أما الشق الثاني فداخلي، مع وصوله إلى قناعة باستحالة استحواذه من الآن فصاعدا على أكثرية نيابية يُمسك بواسطتها مفاصل الدولة في ظل رَفض ثلاث جماعات لسيطرته على البلد: المسيحيون والسنة والدروز، فضلاً عن رفض شريحة واسعة من الرأي العام استمرار لبنان مساحة عنف وعدم استقرار، وقد دلّت الانتخابات النيابية الأخيرة الى حجم التبدُّل في مزاج الرأي العام، وهذا كله قبل الانفصال الموضوعي بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، كما انّ الحزب لا يريد ان يكون دوره داخل الدولة عن طريق مُقايضات وتنازلات ومساومات مع قوى سياسية، إنما يريد تثبيته لمرة نهائية بمعزلٍ عن تبدّل التحالفات في الداخل والتحول في مزاج الرأي العام والتغييرات الخارجية المستمرة.
وإذا سلّمنا بأنّ كلامَي الشيخ نعيم والنائب رعد جديّان، وليسا من قبيل المناورة و”تهبيط الحيطان” على أخصام الحزب للتسليم بمرشحه تجنّباً لتعديلات دستورية، فهل يكون الحزب ضحية سوء تقدير جديد بعد سوء تقديره للانتخابات الرئاسية، بدءا من اختيار مرشحه والإعلان عنه، مروراً بالرهان الفاشل على حليفه المسيحي بالانضمام إلى خياره، وصولاً إلى رهانه الخائب على أخصامه بإبرام تسوية سياسية معه.
والكلام عن سوء تقدير جديد لـ”حزب الله” مرده إلى خمسة أسباب موضوعية:
السبب الأول: سعودي. فكيف يمكن للحزب ان يطرح تعديلا او نسفا لاتفاق الطائف الذي لم يطبّق، والذي تتمسّك به المملكة في مرحلة عنوانها إعادة ترتيب العلاقة بين الرياض وطهران؟ فأي طرح لتعديل الطائف في هذه اللحظة بالذات هو رسالة سلبية من إيران إلى السعودية، اي خطوة “عكس سير” الاتفاق السعودي-الإيراني.
السبب الثاني: مسيحي. كيف يمكن إقناع المسيحيين، جميع المسيحيين، بالموافقة على تعديلات على النظام في الوقت الذي يكفي فيه إجراء استفتاء ليتبيّن بنتيجته ان غالبيتهم مع التقسيم لا الفدرالية، ولن يتمكّن حتى مرشحه الرئاسي من ان يغطي خطوة من هذا القبيل؟
السبب الثالث: سني. يُخطئ الحزب في حال كان يعتقد انّ بإمكانه التعويل على مرحلة عدم التوازن التي تشهدها الساحة السنية لتهريب تعديلات على اتفاق الطائف، لأن الطائفة السنية ستتوحّد ضده وتقف رأس حربة في مواجهته.
السبب الرابع: نيابي. كيف يمكن ان يفكِّر “حزب الله” في تعديل الدستور في ظل ميزان قوى نيابي لا يسمح له بانتخاب رئيس للجمهورية، وهذا الميزان سيقف في مواجهته في حال قرّر السير بأي مغامرة من هذا القبيل؟
السبب الخامس: لبناني. الرأي العام الذي انتفض مرتين في 14 آذار 2005 و17 تشرين 2019 أظهَرَ انّ وحدته حقيقية لا مصطنعة، وان هدفه قيام دولة فعلية وإرساء استقرار والعيش في أمن وأمان، وقد انتفَضَ ضد مَن يحول دون عودة لبنان دولة طبيعية، وبالتالي هذا الرأي العام سينتفِض للمرة الثالثة حُكماً في حال قرّر “حزب الله” السير في تعديلات دستورية تُبقي لبنان ساحة إلى أبد الآبدين، وتُفقد اللبنانيين أملهم بوطنهم ومستقبلهم فيه.