مجلة وفاء wafaamagazine
حظ لبنان السيئ، أنه عالق في أزمة داخلية خانقة سياسياً واقتصادياً ومالياً، ولا يجد منفذاً للخروج منها، لا بل انها تزيد من ضغطها عليه الى حد انها تهدد بسقوط لا قيامة منه، الّا انّ الحظ يزداد سوءاً مع العاصفة السياسية التي تتكوّن في سماء الشرق الأوسط وسط التحضيرات الاميركية للاعلان اليوم من البيت الابيض عن تفاصيل «صفقة القرن»، والتي تثير مخاوف من أن يدخل لبنان في سياقها، مع ما قد يدفعه من أثمان جرّاء ذلك.
لبنان أمام هذه الصورة، مقيّد بين خطرين يهددان مصيره كدولة وكيان، وصَعب عليه بوضعه الراهن، الافلات بسهولة من أيّ منهما. فالأزمة الاقتصادية دخلت مرحلة الاستعصاء، الذي تبدو فيه منافذ الحلول الجدية شبه منعدمة، وتتطلّب قدرات خارقة لإعادة وضعها من جديد على سكة الانتعاش، خارج العقلية الرديئة التي أدارت الدولة وتسبّبت بهذه الأزمة، التي أوكلت السلطة الحاكمة أمر إيجاد العلاجات لها، الى حكومة قائمة على أرض منقسمة بين فريق أَلّفها واعتبرها قشّة يلتقطها غريق، وبين فريق يرفضها نَعاها مُسبقاً واعتبرها فاقدة لأيّ قدرات حتى ولو عادية، لتجاوز الأزمة.
الصفقة
واذا كانت صفقة القرن، وكما تقدمها الولايات المتحدة الاميركية كفرصة لإيجاد تسوية للصراع في الشرق الأوسط، الّا انها في المقابل محل تحفّظ روسي الذي يعتبر انّ «الخطة الاميركية للسلام في الشرق الاوسط، والمسمّاة «صفقة القرن»، لا تفترض اقامة دولة فلسطينية». وايضاً هي محل اعتراض لدى العديد من دول المنطقة، وعلى وجه الخصوص فلسطين لأنّ كل الفصائل الفلسطينية أجمعت على رفضها.
وقالت مصادر ديبلوماسية شرقيّة لـ»الجمهورية»: انّ جملة مخاطر ستترتّب على صفقة القرن، فالمستفيد الأول وربما الوحيد، هو اسرائيل. أمّا المتضرر الرئيسي فهم الفلسطينيون، وكذلك الاردن الذي سيقع عليه عبء كبير جداً يُقارب الخطر الوجودي، اذ لم يخرج الاردن من اعتباره وطناً بديلاً مُحتملاً للفلسطينيين. وأيضاً مصر، التي قد تكون مضطرّة لتقديم ثمن يتجاوز التخلّي عن بعض من أراضيها في سيناء، لتصل إلى احتمال توطين عدد كبير من الفلسطينيين على أرضها.
وتضيف المصادر انّ لبنان يقع ضمن بنك أهداف «صفقة القرن»، لناحية محاولة فرض توطين الفلسطينيين على أرضه ودمجهم في البيئة اللبنانية بشكل كامل.
واذ تنوّه المصادر الديبلوماسية بالموقف اللبناني وإجماع كل القوى السياسية على رفض التوطين انطلاقاً من العقد الاجتماعي المكرّس دستورياً، الّا أنها تدعو اللبنانيين الى اليقظة من محاولات خطيرة تخدم فرض التوطين على لبنان، عبر محاولة إرباك الوضع الداخلي في لبنان، سواء بفتن وقلاقل وربما اكثر من ذلك.
الثقة
سياسياً، الصورة الداخلية ما زالت على اهتزازها سياسياً واقتصادياً، وهذا الوضع سيكون بنداً في جدول أعمال القمة الروحية المسيحية التي ستعقد في بكركي اليوم بدعوة من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الذي من المقرر أن يغادر الى روما منتصف الاسبوع المقبل في زيارة يلتقي خلالها قداسة البابا فرنسيس.
من جهة ثانية، ومع انتهاء حكومة حسان دياب من إعداد بيانها الوزاري وإقراره في مجلس الوزراء هذا الاسبوع، يصبح من شبه المؤكد انّ جلسة مناقشة البيان الوزاري والتصويت على الثقة النيابية بالحكومة، ستعقد مطلع الاسبوع المقبل على أبعد تقدير.
وتؤكد كل المؤشرات المحيطة بجلسة البيان انّ الثقة التي ستحوزها الحكومة من نواب اللوان الواحد الذي شَكّلها، لن تأتي بطريقة سلسلة على نحو ما تشتهي الحكومة، بالنظر الى التحضيرات الجدية لدى مكوّنات الحراك الشعبي بمواكبة تلك الجلسة بتصعيد وَصفته بعض مكوّنات الحراك بـ»غير المسبوق»، وكذلك الى ما سمّي «هجوم كسر الهيبة» الذي ستتعرّض له هذه الحكومة من قبل نواب المعارضة في مجلس النواب، الذين سيشاركون في الجلسة. وبالتالي، إظهار الثقة التي ستنالها هزيلة ومن طرف واحد، ولا تعبّر عن إجماع كل اللبنانيين، ما يعني انّ جلسة الثقة ستكون صاخبة بكل تفاصيلها.
الموازنة
على الخط الموازي، ووسط اعتراض الشارع، والجدل حول دستورية جلسة إقرار الموازنة، وفي جلسة هي الأقصر والأسرع من بين جلسات مناقشة الموازنات السابقة، أقرّ المجلس النيابي أمس مشروع موازنة العام 2020، في حضور رئيس الحكومة حسان دياب من دون سائر الوزراء، وكانت معبّرة ولافتة للانتباه صورة دياب وحيداً في المقاعد المخصّصة للحكومة في قاعة الهيئة العامة لمجلس النواب.
وعلى الرغم من انّ الموازنة أقرّت بـ49 صوتاً، فإنّ اللافت للانتباه كان حجم المعترضين عليها امّا بالتصويت ضدها (13 نائباً)، وكذلك «التصويت ضدها» إنما بالامتناع عن التصويت (8 نواب). ولفتَ الانتباه ايضا انّ تيار المستقبل وزّع أصوات نوابه بين مؤيّد للموازنة وممتنع عن التصويت، فيما امتنع اللقاء الديموقراطي. وفسّرت مصادر مجلسية موقفَي المستقبل واللقاء الديموقراطي، انهما قررا اللجوء الى هذه الطريقة بالتصويت بالامتناع لئلّا يعتبر تصويتهما مع الموازنة بمثابة منح ثقة مُسبقة لحكومة دياب التي تبنّت موازنة الحكومة السابقة، ولئلّا يعتبر تصويتهما ضدها علناً بمثابة حجب مُسبق للثقة عن حكومة دياب، علماً انّ الرئيس الحريري وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط كانا قد طلبا منح الحكومة فرصة لتعمل.
قلق مستمر
الى ذلك، فإنّ الاساس مع إمرار موازنة 2020 أمس، هو عدم العودة الى الانفاق وفق القاعدة الاثني عشرية، لكنّ الشكوك في الأرقام الواردة فيها أفقدتها قيمتها لجهة الانتظام المالي. إذ يُجمع الخبراء الماليون على ضرورة إدخال تعديلات كبيرة بسبب الظروف التي استجدّت منذ 17 تشرين الاول 2019. وبالتالي، فإنّ الايرادات المقدّرة في الموازنة مُبالع فيها، بما يعني انّ العجز سيكون أكبر بكثير من 6 %، وقد يتجاوز الـ11 %.
ويرى متابعون انّ حكومة دياب التي تبنّت موازنة لم تضعها، سوف تعالج الثغرات القائمة فيها من خلال تعديلات قد تدخلها تباعاً ووفق الحاجة، في وقت لاحق.
في الموازاة، ظلّت الاشارات السلبية هي الطاغية بالنسبة الى الوضع المالي والاقتصادي. ومع اقتراب موعد استحقاق يوروبوند بقيمة 1,2 مليار دولار في آذار المقبل، واستمرار الجدل في شأن القرار الذي ينبغي اتخاذه لجهة الدفع او الامتناع وطلب اعادة جدولة الدين، وبالتماهي مع حال اللايَقين السائدة حيال هذا الاستحقاق، واصلت اسعار السندات اللبنانية بالعملات (يوروبوند) التراجع في الاسواق العالمية.
وأمس، تراجعت سندات استحقاق العام 2022 بـ 1.9 سنت الى حوالى 45 سنتاً. وكانت قد تراجعت سندات استحقاق آذار 2020 بشدّة قبَيل اجتماع وزير المالية مع مسؤول صندوق النقد الدولي يوم السبت الماضي، حيث هبطت 2.7 سنت الى 77.5 سنتاً، وسندات استحقاق 2022 و2035 تراجعت 1.6 سنت الى 45 و40 سنتاً على التوالي.
المؤسسات الدولية
الى ذلك، علمت «الجمهورية» انّ ممثلي المؤسسات المالية الدولية وَجّهت في الآونة الاخيرة مجموعة جديدة من النصائح المستعجلة للطبقة السياسية في لبنان، تحثّ الحكومة اللبنانية على سلوك المسار التي أصبح مفروضاً عليها لإنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي، الذي أصبح في حالة مأساوية.
ويعكس هؤلاء الممثلون لوماً شديداً للحكومة السابقة، ووصفوها بأنها شكلت سابقة في تعاطي الحكومات مع شعوبها، إذ انّ المؤسسات المالية الدولية على اختلافها، لم يسبق لها أن عاصَرت جهة حكومية في اي بلد، كمثل الحكومة اللبنانية وتعاملها مع شعبها، على الرغم من النصائح والتحذيرات المتتالية التي كانت ترسل إليها عبر موفدين للمؤسسات المالية، والتي بلغت في إحدى المراحل حدّ الحديث بكلام مباشر مع كبار المسؤولين في الحكومة اللبنانية وتحذيرهم من انّ بلدكم مُقبل على الانهيار في وقت ليس ببعيد إذا لم تبادر الحكومة اللبنانية الى خطوات إصلاحية جذرية، وهو مع الأسف لم يلق استجابة من الحكومة، الأمر الذي دفع بأحد كبار المسؤولين في مؤسسة مالية دولية الى مصارحة مسؤول حكومي كبير، وجهات اقتصادية لبنانية بقول مَفاده «الآن ما زلنا نتحدث معكم وجهاً لوجه، وعلى مقاعد متقابلة، وإذا لم تبادروا لإنقاذ بلدكم، فسيأتي يوم وتأتون إلينا راكعين ولن تلقوا استجابة منّا».
وبحسب المعلومات، فإنّ تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة لقيَ ارتياحاً لدى المؤسسات الدولية، وهو ما عكسه ممثل البنك الدولي في لبنان، الّا انّ هذا الامر لا يكفي، لأنّ أمام لبنان مساراً لا بد من سلوكه.
وتضيف المعلومات انّ جهات اقتصادية لبنانية تبلّغت انّ توافقاً حصل بين العديد من المؤسسات الدولية، على ان تضخّ ما بين 300 الى 400 مليون دولار في وقت عاجل في لبنان، لتمكينه من تلبية جملة أمور طارئة، اذا ما احتاجها لبنان، (لاستيراد المواد الغذائية والنفط وغيرها) الّا انّ هذا الأمر ليس دائماً. حتى انّ حاملي السندات اللبنانية بالدولار من مؤسسات أجنبية، لديهم الاستعداد للموافقة على جدولة الدين وتمديد آجال سداده لفترة معينة، يمكن أن يتمكّن خلالها لبنان من الدخول في برنامج إنقاذي لأزمته، الّا انّ المساعدات المالية الاخرى والكبرى مرهون تدفّقها الى لبنان بمسارعته الى إجراء اصلاحات جذرية ومنظورة.
فرصة
وبحسب مصادر اقتصادية، فإنّ المؤسسات الدولية، ترى انّ أمام لبنان فرصة، لكن ليست طويلة لوضع برنامج إنقاذي جدي للبنان من الازمة الصعبة التي يعانيها، ووضعت اقتصاده في حال من الخطر الشديد، يتضمن مجموعة العناوين الاصلاحية التي لطالما طولِب لبنان بإجرائها من قبل كل المؤسسات الدولية.
وتكشف المصادر انّ ما تركّز عليه المؤسسات الدولية في نصائحها للبنانيين، هو الشروع في إصلاح فوري لقطاع الكهرباء ووقف التهرّب الضريبي، والتهريب والتهرّب الجمركي في المرافئ وعلى النقاط الحدودية. وأمّا الشرط الاساس لنجاح ايّ عملية إصلاح فهو وجود توافق سياسي، يُسهّل هذه العملية اكثر من اي وضع يكون فيه لبنان في حال عدم استقرار سياسي. والشرط الاساس لهذا التوافق السياسي أن تكون الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، «مُستوعبة» لحجم «المصيبة» ومقتنعة انّ مصاب بلدهم جَلل. وبالتالي، ما يحتاجه لبنان وبإلحاح هو إصلاحات جدية وجذرية وليس نظريات.
مسار لا بد منه
وفيما يُجمع الخبراء الاقتصاديون على انّ إقرار موازنة 2020 خطوة عادية، باعتبارها رقمية بلا مفاعيل إصلاحية، قالت مصادر سياسية ممثلة في الحكومة لـ»الجمهورية»: انّ الخطوة التالية بعد إقرار الموازنة هي في يد الحكومة بعد نَيلها الثقة من مجلس النواب، والرئيس نبيه بري وَضعها أمام امتحان ثقة اللبنانيين خلال فترة لا تزيد عن 4 أشهر. وهذا يعني انّ عليها ان تستفيد من كل الثغرات التي أحدثتها الحكومات السابقة، وعلى وجه الخصوص ما أحدثته الحكومتان السابقتان، والعمل على سدّها عبر:
– وضع الأزمة المالية بنداً أولاً على جدول المتابعة والعلاج.
– تلبية مطالب الفئات الشعبية، عبر مبادرات سريعة توحي بالثقة والمصداقية، والتركيز بشكل كلي على مكافحة الفساد المستشري في كل القطاعات، والمحاسبة العلنية للفاسدين والمفسدين. هذا هو شرط الثقة بها، التي إن لم تتوفّر فخسارتها حتمية.
– تطبيق مجموعة القوانين النافذة والمعطلة، أو بالأحرى الممنوعة من التنفيذ، لأسباب سياسية حكمت الحكومة السابقة، علماً انّ هذه القوانين تزيد عن 54 قانوناً، ومعظمها مرتبط بعملية الاصلاح، ويسهل على الحكومة اتجاهها الى إجرائه في أي مجال.
– المسارعة الى إجراء التعيينات الادارية في الاماكن الملحة، كنواب حاكم مصرف لبنان الاربعة، الشاغرة مراكزهم منذ أشهر والمصرف المركزي بلا مجلس مركزي منذ ذلك الحين، وكذلك تعيين الهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات والطيران المدني.
– عدم استنساخ أداء الحكومة السابقة باستسهال اللجوء الى حلول متسرّعة نحو فرض ضرائب ورسوم، باعتبارها اسهل الحلول التي غَطّت فيها هروبها من القرارات الاصلاحية الجريئة التي توفر من خلالها موارد كبيرة للخزينة، إن حول القطاعات النازفة وفي مقدمها الكهرباء، أو حول محميات الهدر التي بَدت أنها أقوى من الدولة.
– الاستجابة لنصائح المجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية، فوَضع لبنان، على الرغم من انحداره الى مستوى خطر غير مسبوق، ما زال لديه قابلية للعلاج. وبالتالي، لم يعد لبنان يملك ترف الوقت، لأنّ المرض الذي اصاب الاقتصاد اللبناني أصبح من النوع الذي يحتاج الى عمليات جراحية، فمن دون اللجوء اليها سيكبر المرض ويتفاعل وسيؤدي حتماً الى الوفاة. وليس صحيحاً ابداً انّ العالم يُحاصر لبنان، بل بالعكس المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية ما زالت تعبّر عن رغبة في مساعدتنا، شرط أن نساعد أنفسنا بالذهاب الى الاصلاحات.
مهمة شاقة
ما تقدّم يؤكد انّ الحكومة امام مهمة شاقة، وهو ما يؤكّد عليه مرجع كبير لـ»الجمهورية»، حيث يقول: لبنان في واقع أسود، وقلقنا قد يفوقه قلق الخارج علينا، فالمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية، وفق الاشارات التي ترد إلينا، تريد أن تساعدنا، لكن ليس ان تضع مساعداتها في دلو مثقوب، العالم اجتمع من أجلنا في فرنسا (55 دولة ومؤسسة) والحكومة هربت من المسؤولية ولم تستجب لمتطلبات الدعم، فضلاً عن انّ الدول المتعهدة بمساعدة لبنان، لديها قوانين ومحاسبة، وهناك شيء اسمه دافعو الضرائب، دوَلهم تحترمهم، وتريد ان تعرف الى اين تذهب مساعداتها في لبنان، أي الى المشاريع المنتجة وليس الى جيوب السماسرة والسياسيين.
وأكد المرجع الكبير «انّ هذه مسؤولية الحكومة الجديدة، والاصلاح حتمي وخيار لا بد منه. الثقة الداخلية غير مؤمّنة بعد، والثقة الخارجية يجب ان نعترف أنها مفقودة، ولن تُستعاد إلّا بخطوات جدية تؤشّر الى تغيير في الواقع الحالي، والمؤسسات المالية الدولية و»سيدر» تريد ان ترى ترجمتها على الارض، وهم أعلنوا انه بهذه الترجمة يمكن القول ان ّباب المساعدات الجدية للبنان سيُفتح من جديد».
الجمهورية