مجلة وفاء wafaamagazine
قد يكون ما يصيب القطاع الصناعي في لبنان الأكثر تعبيراً عن العشوائية التي يدار بها البلد، والغياب التام لأي استراتيجية. لا يفهم الصناعيون الخفّة وعدم المبالاة في تعاطي مصرف لبنان والمصارف مع الملف الصناعي، إذ كيف لمن يسعى الى الحدّ من نزف الدولارات، أن يحرم القطاع القادر على تأمين ثلاثة مليارات دولار (عبر الصادرات) من الأموال اللازمة لاستيراد المواد الأوليّة؟ فيما لم يعد الأمر يتحمّل ترف النقاشات والاجتماعات و«الوعود الكاذبة»، على حدّ وصف الصناعيين، بعدما أصبح الأمن الغذائي مهدّداً جدياً، في ظل نضوب المواد الأولية المخزّنة وتراجع الاستيراد بشكل كبير، ما قد يعني اختفاء الكثير من السلع والمنتجات من الاسواق.
وزير الصناعة عماد حب الله صرّح، قبل أيام، بأن «على الصناعة المحلية ملء النواقص المتأتية من تراجع الاستيراد الذي يخفّف العجز في الميزان التجاري». هذا ما يفرضه المنطق. إلا أن ما نشهده فعلياً هو تراجع في وتيرة الإنتاج وإفلاس للكثير من المصانع، رغم أن الحلّ المؤقت الذي قد يسمح للقطاع الصناعي بأخذ نفس لا تتعدى كلفته 300 مليون دولار.
حب الله أقرّ في اتصال مع «الأخبار» بأن «من غير السهل تغيير التوجه الاقتصادي القائم منذ 100 سنة والمرتكز على الخدمات والريع، خصوصاً في مثل هذا الظرف الدقيق الذي يمر به لبنان». لكنه لفت إلى «وجود اتفاق في الحكومة للاعتماد على اقتصاد الانتاج ودعم القطاعات الانتاجية، عن طريق بعض الاجراءات الضريبية لحماية السوق المحلية والبضاعة الوطنية من الإغراق والتهريب والتهرب ومحاولة تسريع الإجراءات الضرورية للتصدير». وكشف عن لقاء عقد قبل أيام مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «اتفقنا خلاله على إيجاد آلية لمساعدة القطاع الصناعي لناحية تأمين سيولة إضافية، وآمل أن تظهر حلول عمليّة في الأسبوعين المقبلين».
المشكلة أنه في زمن الأزمات، فإن الوقت يحتسب بالثواني، ومدة الاسبوعين – إن صدقت النيات – قد تكون متأخرة، خصوصاً أن «القطاع بحاجة ماسة وفورية إلى 300 مليون دولار لتأمين المواد الأولية الضرورية، ما يكفينا لمدة شهر ونصف إلى شهرين تقريباً، ريثما تكون قد تبلورت حلول حكومية بعيدة المدى»، بحسب رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميّل الذي طالب مصرف لبنان «بدعم الصناعة أسوةً بالأدوية والقمح والمشتقات النفطية»، خصوصاً أن «مخزون المصانع من المواد الأوليّة شارف على الجفاف. فالمخزون يؤمن عادةً لمدة 3 أشهر، وهي مدة تكون قد انقضت إذا ما احتسبنا تاريخ فرض المصارف القيود على التحويلات والسحوبات بعد الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول»، فيما يعرب النائب والصناعي ميشال ضاهر عن تشاؤمه الشديد، إذ إن الطبقة السياسية «تعيش حالة إنكار للواقع»، فيما وعود سلامة لا تعني شيئاً، لأن «من يسمع كلام الحاكم يفرح، ومن يرى أفعاله يحزن».
المشكلة بين الصناعيين والمصارف أكثر من عميقة، ويبدو أن آثارها ستمتد لفترة طويلة في ظل الخيارات التي بات كثير من الصناعيين يتبعونها للتحرر من القيود المصرفية غير القانونية. بالنسبة إلى الجميّل، فإن «حماية ودائع الناس تبدأ بحماية الاقتصاد ككل، وحماية الاقتصاد تكون بحماية الصناعة التي توظف 195 ألف عامل، إضافة إلى خلقها لعشرات آلاف الوظائف الأخرى في قطاعات مرتبطة بها». ويلفت الى أن «كل 50 الف دولار مبيعات في القطاع الصناعي تؤمن وظيفة، وبالتالي فكل مليار دولار مبيعات يخلق 20 ألف وظيفة مباشرة. أوَليس هذا ما يطالب به المنتفضون من خلق فرص عمل وتحسين وضعهم المعيشي؟»
لماذا إذاً لم يتدخل مصرف لبنان حتى الآن؟ لا يعرف الجميّل إجابة عن هذا السؤال، خصوصاً أن الأمور أصبحت تجافي المنطق والعقل. «فعدا المغتربين، الصناعة هي الوحيدة القادرة على ضخ عملات أجنبية إلى لبنان. أما حلولهم فقروض ومزيد من الدين والشحاذة».
حسابياً، لا تكلف مطالب الصناعيين الخزينة دولاراً واحداً. فكلفة المواد الأولية التي يحتاجون إليها تبلغ 3 مليارات دولار سنوياً، وهو رقم يوازي قيمة الصادرات، ما يعني أن القطاع الصناعي قادر على تأمين حاجاته من العملات الاجنبية من الخارج من دون المسّ بالاحتياطيات اللبنانية. إلا أن الأهم هو أن المليارات الثلاثة لا تسهم فقط في ضخّ دولارات من الصادرات بنفس القيمة، بل وأيضاً بمدّ الاسواق اللبنانية بمنتجات وسلع تصل قيمتها إلى 10 مليارات دولار.
ولكن بدل أن نشهد فورة في القطاع الصناعي اللبناني وعملاً جباراً لتلبية حاجة السوق من المنتجات التي فقدت أو التي بات يصعب شراؤها بسبب ارتفاع الأسعار، فإن النتيجة هي «تراجع في وتيرة الإنتاج، وإغلاق للكثير من المصانع». حتى إن «أغلب الصناعيين باتوا يصدّرون بخسارة فقط ليؤمنوا دولارات تكفيهم للصمود والاستمرار» على ما يقول ضاهر، متسائلاً عن إمكانية الصمود في ظل العوامل الضاغطة، «فالدولارات نشتريها من الصرافين على أساس سعر صرف 2200 ليرة للدولار، وهو ما قد يفرض على الكثير من الصناعيين رفع الأسعار، رغم أن الأغلبية لا تزال تسعر على أساس 1500 ليرة لبنانية للدولار.
وما الفائدة حينها من رفع الأسعار التي ستزيد الوضع سوءاً، خصوصاً أن مبيعاتنا انخفضت أساساً بحكم تراجع القدرة الشرائية للبنانيين». أضف إلى ذلك «التهريب عبر الحدود السورية الذي يغرق الاسواق بالمنتجات التركية خصوصاً. يكفي أن تزور عكار حتى تخال نفسك في تركيا. وأنا كنت قد أنشأت معمل بسكويت Wafer، ولكنني لم أشغله. فكيف لي أن أنافس البضاعة التركية؟»
ويعتبر ضاهر أن «المصارف تسهم في ضرب الصناعة برفضها تسليم الأموال للصناعيين»، وهو ما دفع بالكثيرين طوعاً إلى الخروج من القطاع المصرفي اللبناني عبر «فتحهم حسابات في الخارج وطلبهم من المستوردين تحويل الأموال إلى هذه الحسابات». أما الجريمة الكبرى فهي «سداد استحقاق سندات اليوروبوندز في 9 آذار المقبل، إذ إنهم يحجزون أموالنا لدفعها للأجانب، ويحرموننا من الأكل».
الأخبار