مجلة وفاء wafaamagazine
فراس الشوفي
أنعش خطر كورونا السّجال حول النزوح السوري في لبنان. باستثناء الهرج في حملات المزايدة بعد قرار سوريا إغلاق الحدود، لا يبدو أن أحداً يستغلّ الظرف لوضع الحلول على الطاولة
يصدف، حتى الآن، أن أيّاً من المصابين بفيروس «كورونا» على الأراضي اللبنانية، لا يحمل الجنسية السورية، نازحاً كان أم مقيماً قديماً. هذه المعلومة المهمّة، الآتية من مصدر أمني مَعْنِي، ومن مصدر أممي رسمي، ليست تفصيلاً في بلد «الحكايات»، المحكيّة على الحقد، المبنيّة على كل أشكال التمييز والعنصرية.
فالذين انغمسوا مع تسجيل أوّل إصابة في البلد بالتصويب على فئة من اللبنانيين كناقلة للعدوى، والذين تقاذفوا تهمة «الكَوْرَنَة» على أساس الطائفة، كان ليذكّي غِلَّهُم، أن يصاب نازح سوري بالوباء، لتزيد عندهم لائحة مواصفات «الغريب»، صفةً جديدة خطيرة.
ولعلّ إعلان الحكومة السورية بداية الأسبوع إغلاق المعابر الحدودية في البلاد، ومع لبنان، حتى في وجه السوريين، شكّل حافزاً كذلك لحفنة من الانتهازيين، للتصويب على سوريا نفسها والمزايدة بشأن موقفها من عودة النازحين إليها.
صحيح أن الأحداث تحبس الأنفاس في لبنان والعالم أخيراً، لكن الوقت الذي مرّ، لم يمحُ (ولا يمحو) سلسلة المواقف والظروف والأدوار التي لعبها لبنانيون ودوليّون في خلق وتأجيج أزمة اللاجئين السوريين في العالم، وفي لبنان تحديداً، لأهداف سياسية وديموغرافية بحتة.
وهبه قاطيشا (النموذج لا الشخص)، في آذار 2020، هو غير وهبه قاطيشا في آذار 2011. النائب العكاري «التلفزيوني»، كان يرحّب بالنازحين السوريين ويدعوهم إلى التمرّد على دولتهم واللجوء إلى لبنان، ويعدهم بخيرات الأمم المتحدة وضيافة حزب القوات اللبنانية المشهودة، ودافع عن «النصرة» و«داعش» وباقي العصابة. أمّا قاطيشا الجديد، فيعترض على قرار «النظام الدكتاتوري الذي لا يريد عودتهم…»، بما يحافظ على العداء لسوريا، لكن مع تغيير وجهة استعمال الملفّ، من الترحيب إلى السخط.
ووليد جنبلاط (الشخص والنموذج الفريد)، في آذار ونيسان 2005، هو وليد جنبلاط في آذار 2012، ووليد جنبلاط نفسه في آذار 2020، لكن مع مواقف وأفعال متناقضة تماماً، بحيث يتبدّل الأسلوب ولا ينتفي الجوهر. وهنا الميزة طبعاً.
فالنّاقم على سوريا، نكّل بعض محازبيه بالعمّال السوريين في عام 2005، مع زملائهم في تيار المستقبل، المفجوعين بموت الرئيس رفيق الحريري. والمتاجر بسوريا في عام 2012، حمل لواء اللجوء السوري قافزاً من سفارة إلى قنصلية في سياق حربه على «النظام». حتى إنّه أقام الحدّ على أولئك الذين لم ينزحوا من أبناء أعمامه المفترضين في السويداء! أمّا الخائف، فذلك الذي يُقْفِل اليوم محازبوه والبلديات المحسوبة عليه منافذ مناطقهم وضيعهم حتى لا يداهمها الكورونا على حين «عطسة»، في تماهٍ مع قرارات الحكومة وخطة احتواء الوباء، لكن مع تركيز وتشديد وتحريض على منع «تسلّل» سوريين إلى الجبل.
العينات كثيرة من خطاب اللجوء السوري في لبنان، بشقّيه، العنصري (عموماً) والاستغلالي (نسق 14 آذار خصوصاً)، وسلوك أحزاب وشخصيّات وبلديات وأفراد أخيراً، في الدمج بين الخوف من الوباء وضرورات احتوائه ومنع انتشاره، وبين العُقَد التي غذّاها كورونا، من الفرز الجيني للهويّات على اختلاف أشكالها.
وهذا التحوّل ليس حكراً على مذهب المحرّضين والمستغلّين المنتشرين في غالبية الطوائف اللبنانية، بل تحوّل مع كورونا إلى ميزة أوروبية ممتازة، تنهمر مع كلّ بيانٍ وإعلانٍ عن إغلاق الحدود في وجه اللاجئين. فها هي إنجيلا ميركل تطوي سياسات اللجوء التي انتهجتها حكومة الحزب الديمقراطي المسيحي في السنوات العشر الماضية داخل ألمانيا وفي سوريا وغيرها، خالقةً صراعاً داخلياً بدأ ينفجر منه الدم، مع اعتداءات جماعات نازية على مهاجرين «شرقيين» في الأسبوعين الماضيين على خلفية كورونا، وعنف مضادّ منتظر. الذين يبشّرون شعوبهم بالموت، ويقترحون على شبابهم توديع شيبهم، لا يُنتظر منهم الحرص على أرواح اللاجئين. لكن أقلّ المتوقّع من الآن وصاعداً، أن يكفّوا عن إسداء النصح وإلقاء المواعظ، بحقوق الإنسان والقيم التي لم يطبّق منها شيء، طيلة مسيرة الاستعمار المستمرة.
كلّ هذا السواد، يفتح أمام أزمة النزوح السوري في لبنان آفاقاً للحلّ، كانت خيارات «جدلية» في الماضي، لكنّها اليوم أصبحت واجباً.
في الوقائع، فإن إغلاق الحكومة السورية للحدود مع لبنان، هو إجراء مؤقّت ينتهي سريعاً حال انتهاء خطر كورونا. ومع أنه قرار مسبوق، من أي دولة ومن سوريا تحديداً، لكن لدى السوريين مبرّراتهم، كما يؤكّد السفير علي عبد الكريم علي، بفعل الحصار المفروض على سوريا ما يمنعها من استيراد المعدات الطبية لتعويض الخسائر التي مُني به نظامها الصحي وقدرته البشرية والتقنية خلال الحرب. يقول علي إن «سوريا بوضعها الحسّاس، اتخذت الإجراءات الصحيحة لمنع الخطر عن النازحين في لبنان وعن السوريين في الداخل»، جازماً بأن «الإجراء سيتغيّر بسرعة في حال تغيُّر الظروف وسوريا لم ولن تتخلّى عن مواطنيها، وهي تدعوهم للعودة منذ بداية الحرب».
الغريب، أن أحداً في الحكومة اللبنانية لم يراجع سوريا حول قرارها. أكثر من ذلك، لم يردّ أحد في الدولة اللبنانية على رسالة السفير السوري التي يسأل فيها عن سبب إعلان سوريا من بين الدول التي يحظّر الانتقال منها إلى لبنان، قبل اكتشاف أي إصابة فيها.
الأحداث الأخيرة وانعكاسات انتشار فيروس كورونا على العالم الغربي، سيكون لها الأثر المباشر في تبدّل مواقف هذه الدول من قضايا كثيرة أبرزها اللاجئون، ومن قدرتها على التدخّل في هذا الشأن أو التأثير في قراره. فاللبنانيون الذين يراهنون على «النَّفَسَ» الغربي في إدارة ملفّ النازحين، الكارثي، وتماهوا سابقاً مع السياسات الأوروبية والأميركية، عليهم ألّا يُفاجَأوا حين يغيب الغربيون عن السمع. فها هي فرنسا وأميركا تسحبان جنودهما من العراق، وتنغمسان مع غيرهما في معارك السيطرة على كورونا وضخّ المبالغ الضخمة لإنقاذ اقتصاداتها، بما سيحرم المنظّمات الدولية العاملة في لبنان وغيره مستقبلاً، من أي دعم، وهي التي تعاني حالياً من تقليص الموازنات.
في المقابل، تبدو المبادرة الروسية لعودة النازحين السوريين (قلّل من شأنها وحاربها البعض، و«تدلّع» عليها بعضٌ آخر)، والتي تواكبها تحوّلات جذرية في الدورين الروسي والصيني في أوروبا ومنطقتنا، الآلية الدولية الوحيدة المناسبة، إن كان أحد يفكّر في حلّ فعلي وفعّال لأزمة النزوح، مع أول فرصة ينحسر فيها تهديد الوباء المستجدّ.
إلّا أن الشروع في الحلّ، يتطلّب من الحكومة سلوكاً مغايراً لطمس الرأس تحت الرمال، في قضيّة النزوح. فهل هناك من لا يزال يخشى غضباً قد يأتي من واشنطن، في حال التنسيق مع الحكومة السورية بالحدّ الأدنى، في ما يخصّ السوريين في لبنان؟ لماذا لم يسأل أحدٌ سوريا عن قرار إغلاق حدودها على مواطنيها؟ ألا تعتبره الدولة اللبنانية تهديداً؟ لقد وفّر القرار السوري مخرجاً سياسياً ودبلوماسيّاً للحكومة اللبنانية لفتح ثغرة في جدار العلاقات الرسمية الهشّة بين البلدين، من باب الاحتجاج، ولم يتلقّفه أحد، إلّا حفنة المزايدين.
أزمة النازحين في لبنان، كبرت مع الانهيار الاقتصادي وستعظم مع كورونا وما بعدها. فآلاف المياومين السوريين الذي توقّفت أعمالهم، ومئات آلاف النازحين الذين تشحّ مواردهم، ويتهدّدهم خطر كورونا في الخيم والعراء، سيجدون أنفسهم في مواجهة لبنانيين توقّفت أعمالهم أيضاً وشحّت مواردهم وتتحّكم في بعضهم غرائز العنصرية والطائفية والأجندات السياسية. ومن كان لديه خيار العودة إلى سوريا في الماضي ولم يفعل، صارت عودته اليوم ضرورة حتميّة، لحفظ لبنان وسوريا معاً.