مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس راعي ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، قداس خميس الأسرار وعيد تأسيس سر الكهنوت في كنيسة مار يوسف في ضهر العين قضاء الكورة، بمشاركة النائب العام الخوراسقف انطوان مخائيل وخادم الرعية الخوري فؤاد الطبش، الكاهنين جوزاف فرح، وجوزاف خوري. وتابع المؤمنون وقائع الصلاة مباشرة على صفحة فايسبوك التابعة لابرشية طرابلس المارونية.
بعد الانجيل المقدس القى بو جوده عظة قال فيها:” هذا الخميس من أسبوع الآلام هو خميس الغسل شعبيا، وهو خميس الأسرار ليتورجيا وروحيا لأنه اليوم الذي رسم فيه المسيح سري الكهنوت والقربان المقدَّس.ان ساعة موته على الصليب قد إقتربت، وهو على وشك ترك تلاميذه جسديا، إذ إنه في هذه الليلة بالذات سوف يسلخ عنهم بعد أن خانه يهوذا وأسلمه إلى الكتبة والفريسيين الذين سوف يسلمونه بدورهم إلى الرومان.المسيح كان قد وعد تلاميذه بأنه سوف يبقى معهم إلى منتهى الدهر، وفي هذه الليلة بالذات سوف يتمم هذا الوعد بصورة سرية إذ أنه سيبقى مع الكنيسة تحت شكلي الخبز والخمر.نتوقف اليوم إذن في تأملنا حول معنى الأسرار التي نمارسها في الكنيسة والتي ترافق حياتنا كمؤمنين من ولادتنا حتى نهاية حياتنا على الأرض”.
اضاف: “كلمة “سر” أو “أسرار” لها معنيان في المسيحية: المعنى الأول هو في كون بعض العقائد الإيمانية هي حقائق لا شك فيها لكن عقلنا البشري لا يستطيع إدراكها بصورة كافية. وعندنا في الحياة العادية أمثلة عن ذلك، أننا مثلا نتكلم عن سر الكون، لكن الذي نراه من هذا الكون هو جزء يسير جدا، بينما الواقع أوسع بكثير. ما نراه من النجوم مثلا ومن الكواكب هو نقاط صغيرة في فلك السماء، بينما الأكثرية منها لم نكتشفها بعد وهي بعيدة بعدا شاسعا عن الأرض، وعندنا أمثلة كثيرة على ذلك. في المسيحية، بهذا المعنى المجازي، ثلاثة أسرار هي التجسد والفداء والثالوث الأقدس. ونحن بحسب منطقنا البشري مثلا لا نفهم كيف أن الله صار إنسانا وعاش بيننا بطبيعتيه الإلهية والإنسانية، كما أننا لا نفهم كيف أن إبن الله يموت، وهو مصدر الحياة، ولا كيف يقوم من بين الأموات… ولا نفهم كيف أن الآب والإبن والروح القدس إله واحد في ثلاثة أقانيم. وإن معرفتنا لهذه الحقائق هي معرفة إيمانية وليست معرفة إختبارية. نحن نؤمن بها لأن الإيمان بالنسبة لنا هو ثقة مطلقة بالله الذي لا يغش ولا يغش”.
وتابع: “أما المعنى الثاني لكلمة “سر” و “أسرار” فهو أنها علامات حسية ظاهرة تمنح النعمة، أي إنها ظاهريا مجرد أمور مادية وحركات عادية، لكن إستعمالها مع مدلولها الروحي يغير معناها جذريا. فالماء يستعمل عادة للغسيل والتنظيف، أما إستعماله في المعمودية فيعطيه معنى آخر هو معنى التنقية والتطهير والولادة الجديدة، إذ يكفي أن يقول الكاهن بعض كلمات وهو يسكب الماء على جسم المعمَّد، وهو مؤمن بذلك، حتى يصبح هذا المعمّد خليقة جديدة مولودة من الماء والروح، كما قال المسيح لنيقوديموس الذي إعترف برسالته وجاء إليه ليلا وفي السر. الزيت كان يستعمل عادة لتليين الأعصاب وتقوية زنود المتصارعين والمتقاتلين، فأصبح بإستعماله في المعمودية والتثبيت ومسحة المرضى عربونا عن القوة الجسدية والقدرة على الوقوف في وجه قوة الشيطان المجرب”.
واردف: “الخبز والخمر هما مأكل ومشرب جميع الناس من أجل تغذية حياة الجسد فأصبحا بعد أن قال عليهما المسيح كلام التقديس جسد المسيح ودمه. وهذا ما علمنا إياه في الفصل السادس من الإنجيل بحسب يوحنا حيث قال: أنا خبز الحياة. إن الخبز النازل من السماء هو الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء، من يأكل من هذا الخبز يحيى للأبد. والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي أبذله ليحيا العالم (يو6/48-51). هذه الأسرار، كعلامات حسية ترافق الإنسان وتعطى له طوال حياته كي تساعده وتقويه جسديا وروحيا. حددت الكنيسة عددها بسبعة إستنادا إلى تعليمها عبر الأجيال وإلى ممارستها من قبل المؤمنين: ترافقه في ولادته وطفولته بأسرار التنشئة وهي المعمودية والتثبيت. كما ترافقه في حياته العلنية عندما يدخل معترك الحياة ويختار دعوته ملبيا دعوة الله له، إن بالزواج من أجل بناء العائلة والمساهمة في بناء المجتمع، وترافقه في حال الضعف والمرض، جسديا كان أم روحيا بواسطة سر التوبة، أم بسر مسحة المرضى. وأخيرا ترافقه بإستمرار بسر الحياة الذي هو القربان المقدس، حضور المسيح دائما معه كي يقويه ويشجعه على الثبات في الإيمان”.
وقال: “قد يبدو للبعض في بعض الأحيان أن بعض هذه الأسرار صعب الفهم وغير مقبول وقد عبروا عن ذلك في حالتين على الأقل: الأولى عندما قال إن المعمودية ولادة جديدة، فسأله نيقوديموس كيف يمكن أن يكون ذلك، أيعود الإنسان ويدخل بطن أمه ثانية ويولد. والثانية عندما أدار له البعض ظهرهم وذهبوا بعد أن قال أنه هو خبز الحياة، وبأن من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، فقالوا هذا الكلام صعب فمن يستطيع أن يفهمه؟ وبالواقع فإننا لن نستطيع فهم ذلك بإمكانياتنا البشرية مهما بلغنا من درجة علم وفكر وثقافة ولذلك نحن مدعوون للقول له مع بطرس عندما سألهم إذا كانوا هم أيضا سيتركونه ويذهبون: إلى من نذهب يا رب، وأنت وحدك عندك كلام الحياة”.
اضاف: “اليوم، في خميس الأسرار، أعطانا المسيح سري الكهنوت والقربان المقدس. سلم أمره للكهنة الذين صار بإمكانهم، كما يقول القديس يوحنا فيانيه أن ينزلوه على الأرض، بكلمتين يتلفظون بها في القداس:” كلوا هذا فهو جسدي، وإشربوا هذا فإنه دمي”. ولكي لا يتكبر الكهنة وهم يمارسون هذا السلطان الإلهي، كما عندما يمارسون سائر الأسرار، وبصورة خاصة سر التوبة المقدس الذي بموجبه يغفرون الخطايا بإسمه، فإنه تنازل وتصرف كالعبد في ليلة العشاء السري وغسل أرجل تلاميذه، بروح تواضع لا مثيل لها، إذ أن هذا من واجبات العبد. أنتم تدعونني المعلّم والرب وأصبتم فيما تقولون. فهكذا أنا، فإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض، فلقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضا ما صنعت إليكم (يو13/13-15). الأسرار التي نحتفل بها اليوم، ورتبة غسل الأرجل، هي أمثولة لنا من المسيح كي نجعل من حياتنا حياة محبة وخدمة لله وللآخرين”.
وتابع: “إننا نعيش هذه الأيام، في هذا الأسبوع المقدس، محبة الله لنا: محبة الآب الذي هكذا أحب العالم حتى أنه بذل إبنه الوحيد في سبيل فدائه ومحبة الإبن الذي قال عن نفسه: ليس من حب أعظم من حب من يبذل نفسه عن أحبائه ومحبة الروح الذي هو محبة الآب والإبن. فلنجعل من هذه الأعياد المباركة مناسبة لنا للتقرب من الله ومن الآخرين. لمحبة الله ومحبة الآخرين. إذ أن محبة الله لا تتم إلا عبر الآخرين، كما يقول لنا القديس يوحنا في رسالته الأولى: إن من يقول أنه يحب الله وهو لا يحب الآخرين هو كاذب، إذ كيف نستطيع أن نحب الله الذي لا نراه ونحن لا نحب القريب الذي نراه”.
وختم: “إننا بحاجة إلى مثل هذه المحبة في عالمنا ومجتمعنا اليوم وبصورة خاصة في بلادنا التي تعيش منذ زمن طويل زمن عدم المحبة، لا بل أكثر من ذلك، زمن البغض والكراهية والحقد وإستغلال الآخرين، أكنا أبناء دين واحد وطائفة واحدة أم أبناء دينين وطائفتين مختلفتين. فالأنانية وحب الذات هي المسيطرة على تصرفاتنا وأقوالنا وأعمالنا، والسعي إلى مصلحتنا الشخصية هي غالبا هدفنا الوحيد. وإننا بمواقفنا هذه، بأنانيتنا وحبنا المفرط للذات ولمصالحنا الشخصية والمادية، نتابع تهديم البلاد وخرابها بدلا من أن نكون من بناتها على الأسس السليمة. فلنطلب من الرب إذن نعمة المحبة في زمن المحبة هذا، زمن الآلام الخلاصية والفصح المجيد والقيامة والإنتصار على الموت، ليصبح بإمكاننا أن نردد مع بولس الرسول: لقد إبتلع الموت بالغلبة، فأين قوتك يا موت، وأين شوكتك يا جحيم”.