السبت 30 تشرين الثاني 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت الزميلة آمال خليل في الأخبار: منذ اليوم الأول، التحقت صور بركب الانتفاضة التي قرعت كل نواحيها، قبل أن تتموضع في دوّار العلم، في وسط أكثري رافض. شذّب الثوار «أفرع» لافتاتهم وتحركاتهم، تجنّباً لاستفزاز المحيط. مع ذلك، لم يسلموا من اعتداءات أعقبت حملات تحريض. وفي ما بينهم، لم يسلموا من اختبارات حادة من شق الصفوف إلى التمييز المناطقيحقق الحراك تغييراً في صور. انتقلت زينة عيد الميلاد من دوّار الاستراحة الذي بات يعرف بدوار العلَم إلى ساحة البوابة التي باتت تعرف بساحة الإمام موسى الصدر. الشجرة والغزلان والعربة وبابا نويل والرنّة، لن يتجمعوا عند الدوار منذ بداية كانون الأول كما جرت العادة منذ سنوات. بلدية صور القيّمة على الزينة، حققت أول مظاهر التغيير في المدينة في عهد الانتفاضة. تركت الدوار للمنتفضين، ونقلت العيد إلى ساحة تمون عليها. أما الدوار الذي كان يملأه العشب الأخضر والورد الجوري، فقد غلبه اليباس. بعد إضاءة الزينة والشجرة، ستتنافس الساحتان على جذب الناس. في ساحة البوابة، ينتظرهم «بابا نويل» بهداياه الوهمية. وفي ساحة العلم، حيث خيم الاعتصام المفتوح، تنتظرهم أنشطة مطلبية وإنسانية ومجتمعية من ندوة حول المنظومة الرأسمالية والمصرفية إلى جلسة يوغا وترويقة صاج وأمسية فنية ثورية ومسيرة نسوية ضد المحكمة الجعفرية.
منذ 45 يوماً، «يرابط» شبان وشابات من صور ومنطقتها ومن بعض بلدات بنت جبيل والزهراني في خيم الدوار. تقلص العدد تدريجياً من الآلاف في بداية الحراك، إلى نحو عشرة أشخاص نهاراً والعشرات ليلاً حالياً. ريهام رومية تعيد سبب تراجع العدد إلى عوامل عدة تحكمت باستمرارية وزخم الاعتصام الواقع عند أربعة تقاطعات. العامل الأبرز برأي رومية أن عودة الحياة إلى طبيعتها في المنطقة فرضت نفسها على داعمي الحراك ورافضيه. الملتزمون بالمدارس والجامعات والوظائف اضطروا إلى برمجة حضورهم بحسب برنامج التزاماتهم. لذلك، يقتصر العدد صباحاً على العاطلين من العمل، على أن يتزايد العدد بعد الرابعة عصراً إثر انتهاء دوام التعليم والعمل، وفق رومية. فالأخيرة واحدة من المجموعة القليلة التي تحضر بشكل شبه دائم الى ساحة الاعتصام. «أدرس في أحد المعاهد لثلاثة أيام في الأسبوع بين الثامنة صباحاً والثانية عشرة ظهراً، ما يسمح لي بقضاء جلّ وقتي هنا». ريهام ليست ابنة صور. تتنقل بـ«السرفيس» بين الدوار وبلدتها. تعتمد على مالها الخاص لتأكل وتشرب. «أحياناً، نبقى طوال النهار بلا لقمة، وأحياناً أخرى يبادر أحد الناشطين إلى تقديم المناقيش كضيافة. فيما تحضر بعض المشاركات أحياناً طنجرة مجدرة أو برغل كغداء أو عشاء، على غرار المخيمات الكشفية». دوام الدوار كامل. في الليل، يتناوب عدد من الشبان على النوم «لاعتبارين: أولهما لكي لا نترك الساحة، وثانيهما لكي لا يستغل أحد غيابنا فيزيل الخيم»، يقول أحد الناشطين.
«نحن هنا كأفراد وليس كحزبيين» تقول رومية، مسارعة إلى قطع الطريق أمام إسقاط الانتماءات الحزبية على ساحة صور. مع ذلك، ليس سراً انتماء البعض إلى قوى يسارية ووطنية، ولا سيما الحزب الشيوعي اللبناني والتنظيم الشعبي الناصري. لكن الغالبية تنتمي إلى «حزب المستقلين»، ولا سيما الناشطين في جمعيات أهلية ومدنية، ومنهم المنتمون إلى عائلات تناصر أمل وحزب الله. لا قيادة محددة المعالم هنا. «العفوية الشعبية حكمت تحركنا منذ اللحظة الأولى»، قالت إحدى الناشطات. برغم بروز أسماء لمجموعات في بداية الحراك منها «شباب صور» و«نبض صور»، إلا أن «الحضور» في الدوار «رسا أخيراً على أسماء أشخاص يبرزون في تنظيم الأنشطة أكثر من سواهم بسبب وجودهم الدائم». على مدى 45 يوماً، تجذّرت الصورة اليسارية لـ«انتفاضة صور»، بشعاراتها ومقارباتها وضيوف الندوات الأسبوعية والأنشطة التضامنية مع فلسطين والمقاومة وإحراق العلمين الإسرائيلي والأميركي.
نُظِّمت في الدوّار أنشطة تضامنية مع فلسطين والمقاومة، وأحرق العلمان الإسرائيلي والأميركي
ليس هيناً الصمود عند الدوار في وجه البحر بعد تبدل الطقس. كذلك لم يكن هيناً الصمود وسط محيط تؤيد أكثريته قوى يهاجمها أهل الدوار. منذ البداية، التزم المتظاهرون بحساسية الأرض. لم تسجل هتافات أو لافتات تصوّب بشكل مباشر على الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر الله. حتى شعار «كلن يعني كلن» لم يكن جامعاً، فكان مصيره الوأد، إما تجنباً للاعتداءات، أو لخطر إزالة الخيم كلياً. مراعاة الأكثرية أدت إلى الموافقة سريعاً على فتح الطريق المحيطة بالدوار بعد أيام قليلة من بدء الحراك والتموضع في المساحة الدائرية الضيقة التي لا تحتاج إلا إلى «ميكروفون» واحد خلال الأنشطة. لطالما كانت صوَر برّي متلازمة مدينة صور التي تعدّ «العرين» الأوفى لحركة أمل. بشكل مطرد، رُفِعَ المزيد من الصور الضخمة في المباني المحيطة بساحة الاعتصام. لم تعد الصور رسائل انتماء تذيّل بأسماء النافذين وأصحاب المصالح وحسب، بل أصبحت أيضاً رسائل مزايدة بوجه المعترضين لقمعهم وحصارهم ليدركوا أنهم موجودون في المكان الخطأ. آخر ابتكارات التضييق، بروز خطاب مناطقي روّج له معارضو الحراك. كثير من المتظاهرين يأتون من بلدات صور وبنت جبيل والزهراني. فبرز من الصوريين من يقول: «من غير المسموح لأبناء الضيع أن يتحدثوا باسمنا. فليعترضوا في بلداتهم».
ليل الاثنين الفائت، نجا المتظاهرون من ثاني هجوم نفّذه أشخاص حملوا رايات حزب الله وحركة أمل. لم يضربوا الموجودين في الخيم، لكنهم شتموهم وهددوهم وحطّموا خيماً وأحرقوا أخرى. وعلى غرار الاعتداءات السابقة، تبرّأ الحزب وأمل من المعتدين. وبشكل لافت، بادر مسؤولون محليون في الثنائي إلى فض الاعتداء وتفريق المهاجمين. هذه المرة، اكتفى المهاجمون بحمل العصيّ والحجارة. في المرة السابقة، في اليوم الثالث لبدء الحراك، كانت الدوشكا والكلاشينكوف سيدَي الموقف. حينها، استطرد عدد من الشبان في ختام تجمّع مؤيد بري، فعمدوا الى ملاحقة المتظاهرين والتجول بعرض مسلح سيّار وراجل في أرجاء المدينة.