مجلة وفاء wafaamagazine
صدر، في 22 من الشهر الماضي، قانون «التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع». كان من المفترض أن تاريخ الثاني والعشرين من الجاري نهاية المهلة للمؤسسات التي ستتسلّم مؤقتاً تصاريح الموظفين لتنصّ تعاميمها، إلا أنه على ما يبدو ستُقفل المهلة على تعاميم بالكاد تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة من أصل 16 تعميماً مطلوباً. فإلى الآن، ثمّة 3 مؤسسات فقط التزمت بالمهلة، فهل يصح القول بأن «المكتوب يُفهم من عنوانه»؟
في 22 الشهر الماضي، صدر في الجريدة الرسمية نص قانون «التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع» الذي حمل الرقم 189. في المبدأ، يُعدّ هذا الصدور بطاقة العبور نحو التنفيذ، بحيث يصبح ملزماً لكل المعنيين به، سواء الجهات المسؤولة عن تلقي التصاريح أو أصحاب تلك التصاريح.
صحيح أن القانون «حديث العهد»، إلا أنه لم يأت من فراغ. فقد سبقته قبل سنواتٍ طويلة مراسيم اشتراعية وقوانين كانت تدور في فلك الإثراء غير المشروع، كان أولها المرسوم الاشتراعي الرقم 38 الذي صدر في عهد رئيس الجمهورية كميل شمعون في عام 1953، وتلاه بعد عامٍ واحد أول قانون يفرض على الموظفين والقائمين بخدمة عامة تقديم تصاريح عن ثرواتهم، قبل أن تمرّ 46 عاماً ليصدر القانون رقم 154 (عام 1999) الذي كان أقرب إلى صيغة معدّلة للقانون والمرسوم السابقين، مع بعض التعديلات. لكن، رغم ذلك، لم يتغيّر في الأمر شيء. بقي الإثراء غير المشروع محصوراً في النصوص حصراً، إذ لم يسبق أن رُفعت دعوى واحدة في هذا الخصوص. أضف إلى ذلك أن تقديم التصاريح لم يتخذ طابع الإلزام، إذ كان المعنيون يتقدمون بالتصاريح تبعاً لأهوائهم.
بعد كل هذا المسار، وُلد القانون 189. صحيح أنه لم يكن الأول من نوعه، ولكن ما يميّزه أنه يأتي في مرحلة استثنائية، وأتى «ثمرة» ما عايشته وتعيشه البلاد منذ العام الماضي. وإذ لم ينقطع هذا القانون عما قبله، إلا أنه كان أكثر شمولاً لناحية التصريح الذي يجب على «صاحب العلاقة» التقدم به، كما أنه ألغى كل ما يتعارض مع مضمونه وألغى تالياً ما قُدّم من تصاريح سابقة، كي لا يُكتفى بها.
يقع القانون في تمهيدٍ وأربعة أبواب، توزّعت على 17 مادة. في الباب الأول، تناول القانون نطاق تطبيقه ومن يطاول، فيما استفاض الفصل الثاني في تعريف ماهية التصريح وعلى من يجب وإلى من تُقدم التصاريح. وفي الباب الثالث، حُدد الجرم المترتب على الإثراء غير المشروع، ومدة العقوبة، لتأتي الأحكام الختامية باباً رابعاً.
لم يترك القانون نافذة ليفرّ منها الفاسدون لكن يبقى إلى الآن حبراً على ورق
في المبدأ، يطلب هذا القانون من «كل موظف عمومي باستثناء الفئة الرابعة وما دون أو ما يعادلها غير المكلفين بمهام فئة أعلى، وأفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية والمدارس والمعاهد الرسمية»، التصريح عن الذمة المالية لهم. وكذلك «الموظفون في وزارة المالية وموظفو الجمارك والدوائر العقارية ورئيس وأعضاء وموظفو ومستخدمو اللجان الإدارية والهيئات المستقلة والناظمة المنشأة بقوانين من جميع الرتب والفئات إذا كان يترتب على أعمالهم نتائج مالية». أما في ما يخص «موجبات» تقديم التصريح، فعلى الموظف الالتزام بتقديم جردة مفصّلة عما يملكه هو وزوجته وأولاده القاصرون في لبنان والخارج. أي كل «عناصر الذمة المالية والمصالح العائدة له ولعائلته»، على أن يتقدم بها في عدة أوقات، أولاً خلال الشهرين الأولين من تاريخ توليه الوظيفة العمومية، على أن يلحق كل ثلاث سنوات بتصريح إضافي وقبل نهاية الخدمة بشهرين أيضاً، يلتزم الموظف بتقديم التصريح الأخير. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه إن كان قد سبق للموظف أن تقدم بتصريحٍ سابق بناءً على قانون عام 1999، فقد اعتبر القانون الجديد كل ما سبق «ساقطاً»، وهذا يعني أن الكل عليه أن يتقدم بتصاريح. واللافت هنا أنه مع كل تصريح يتقدّم به المصرّح، عليه أن يبيّن أوجه الاختلاف وأسبابها عما سبق من تصاريح. أما بالنسبة إلى الجهة التي من المفترض أن تودع لديها تلك الأوراق، فقد نصّ القانون على أنها «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد». ولكن، بما أن الطريقة اللبنانية تربط كل تشكيل بمراسيم تطبيقية وتعيينات طائفية، لم تبصر اللجنة النور بعد، لذلك استدرك القانون هذا الواقع الذي قد يطول، فأحال مؤقتاً الطلبات إلى عدد من المراجع كلّ بحسب اختصاصه. هكذا، على سبيل المثال، تودع ملفات رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء ورئيس وأعضاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي لدى رئاسة المجلس الدستوري. وعلى هذا المنوال، سار البقية. وقد أناط القانون بالهيئات المسؤولة عن استقبال التصاريح إصدار تعميم لدعوة الموظفين لتحضير تصاريحهم خلال مهلة شهر من تاريخ نشر القانون.
ولم يترك القانون ثغرة يستطيع من خلالها الملزم بالتصريح الهروب من «الواجب»، إذ ربط بين تقديم التصريح وفق الأصول وشروط استحصاله على «مستحقاته» وتعويضاته وكل ما له علاقة بحقوقه المالية. إلى هذا الحد، كان القانون حاسماً، وإلا فإن الغرامة التي تنتظر المتخلّفين تبدأ من التوقف «عن تسديد الرواتب والمستحقات»، وصولاً إلى «الحبس من ستة أشهرٍ إلى سنة، كما غرامة تتراوح ما بين 10 و20 مرة الحد الأدنى الرسمي للأجور»، لكل من يقدّم تصريحاً كاذباً، «وحبس عام كامل وغرامة تتراوح بين 5 و10 مرات الحد الأدنى للأجور لمن يفشي سرية التصريح». أما من يثبت بحقه جرم الإثراء، فتلك جزاؤها المادة الرابعة عشرة من قانون العقوبات التي تنص على أنه «يعاقب بالاعتقال من ثلاث إلى سبع سنوات وبغرامة تتراوح من ثلاثين مرة إلى مائتي مرة الحد الأدنى الرسمي للأجور كل من أقدم على ارتكاب جرم الإثراء غير المشروع»!
في المبدأ، تضمّن القانون في طياته كل «طموحات» المشرّع، إذ لم يترك نافذة ليفرّ منها الفاسدون. ولكن، في جميع الأحوال، يبقى إلى الآن حبراً على ورق «لا نعلم منه إلا خيراً». أما في التطبيق، فلا مجال للتقييم طالما أن شيئاً لم يحدث. ولكن، بعض الأمثلة قد تبيّن ما يحمل ذلك «المكتوب». فلنأخذ، مثلاً، مضمون المادة السادسة من الباب الثاني التي تنص على وجوب إصدار الجهات المسؤولة مؤقتاً عن استلام التصاريح تعميماً لحث الموظفين على تقديم ملفاتهم، ففي وقت تشارف فيه المهلة على الانتهاء (حتى 22 الجاري)، لم تقم سوى ثلاث جهات من أصل 16 جهة بـ«التحضير» للتعاميم، منها مجلس النواب ومجلس الخدمة المدنية الذي يفترض أن يصدر تعميمه قريباً والمجلس الدستوري الذي أصدر تعميمه بعدما «أخبره» أحد الموظفين بصدور التعميم. أما الأنكى من ذلك فهو أن هذا المجلس لم يكلّف نفسه قراءة القانون، فأصدر تعميماً يلزم الموظفين بنموذج التصريح العائد لقانون عام 1999!
الاخبار